السبت، 13 يونيو 2015

على الله تعود بقلم الكاتب علي الشافعي


على الله تعود بقلم الكاتب علي الشافعي 
لا بد ان جيل الخمسينات والستينات يذكرون الراديو الكبير (ابو لمبات ) , لذي سبق مباشرة راديو الترانزيزتور . انا لحّقْته في بيتنا اوائل الستينات من القرن الماضي , كان صندوقا خشبيا كبيرا صنع بدقة وعناية فائقتين ليكون تحفة فنية في البيت , واجهته الامامية مزخرفة بخيوط الخيزران , وخاصة مكان السماعة , في الاسفل لوحة من الزجاج عليها اسماء الاذاعات بالعربية والإنجليزية تسمى المينا بداخلها مؤشر يحركه عجل في احد اطراف المينا ومفتاح التشغيل في الطرف الاخر, تكتب في اعلى يمين واجهة الصندوق ماركة الراديو , وكانت الماركة (الشركة الصانعة) المشهورة آنذاك هي ماركة (سيرا ) , تكتب بالعربية والإنجليزية . داخل الصندوق لوحة على طول قاعدته بها مجموعة الاسلاك والملفات ولمبات تشبه لمبات الاضاءة القديمة في السيارات , وهي مقويات للصوت , لا يشتغل الراديو حتى تتوهج هذه اللمبات , من هنا اخذ اسم (ابو لمبات ) وباقي الحجم فهو للسماعة الضخمة المثبتة بأحكام من الداخل على الواجهة الامامية . وكان يعمل على بطارية بحجم بطارية السيارة لكنها جافة , تخدم سنة ثم لا بد لها من تغيير . وحتى تسمع المحطات بوضوح لا بد من تمديد شبكة من الاسلاك على طول السطح على شكل مستطيل له قطران . وهو غالي الثمن اذكر ان الوالد باع شاتين حلابتين لشتري بثمنهما ذلك الجهاز العجيب , وحفاظا منه عليه كان رحمه الله يضعه في الخزانة ويقفل عليه , يخرجه عند عودته في المساء فيفتحه ونتحلق حوله فيستمع الى الاخبار الحماسية في ذلك الوقت التي تدعو الى تجييش الجيوش لمحاربة اليهود وطردهم من بلاد العرب . فنحلم بغد اكثر اشراقا , وكان الوالد مثقفا درس حتى الصف الرابع , وكان يقول الرابع على ايامنا يعادل التوجيهي في زمانكم , ومعه حق فقد كان يتقن القراءة احسن من كثير من خريجي اللغة العربية هذه الايام . كان يحرص على سماع بعض البرامج ؛ كبرنامج قول على قول للراحل اللغوي الفذ حسن الكرمي , والذي كان يُبث من اذاعة لندن , وبعض الاغاني في ( ما يطلبه المستمعون) والتمثيليات . وكان هذا الراديو كثير العطب بسبب لمباته التي كثيرا ما تحترق من شدة الرطوبة , عندها يحتاج الشخصين لحمله الى الفني الوحيد في البلدة لإصلاحه , احدهما يحمل الراديو والاخر يتكفل بحمل البطارية . 
في احد الايام سكت الراديو وساد الحزن البيت , فما كان من الوالد الا ان امر بالحمار فقرب , وشدت عليه العدة , من حِلْس وخُرج وعَنان , كان حمارا ــ اكرمكم الله ــ قبرصيا ( اكبر من الحمر الاهلية واصغر من البغل) ابيض مطهما بهي الطلّة , وضاح الجبين , مديد القامة ضخم الهامة , عالي العنق واسع العين ادعجها , افلج الاسنان اثلجها , واسع الصدر قصير اللسان , جهوري الصوت كثير الصمت الا اذا كان جوعان او عطشان او مرت من امامه اتان , له اذنان طويلتان يحركهما يمينا ويسارا واماما وخلفا , تماما مثل لواقط فضائياتنا التي تمخر عباب سمائنا العربية . هادئ الطبع ثابت الخطوة سريعها , لا يتشكى ولا يتشهى يأكل ما قُدّم له من تبن وشعير , او ما جاد به المرعى حامدا شاكرا , حلو المنظر حسن المعشر ولا يرفس الا اذا استفز . مع المدة نمت بيننا وبينه علاقة الاطفال بسيارة النزهة هذه الايام فقد كانت له عربة يجرها كعربة الخيول , بس على اصغر لكنها تكفي لحملنا ونقلنا في نزهة عبر المزارع والحقول , وقد كان لها دور بارز في نقل بعض اثاثنا وامتعتنا عندما هربنا من قصف الاحتلال لقريتنا عام 1967, حيث بتنا اياما في كهوف الجبال حتى وضعت الحرب اوزارها .
عودة الى موضوع طيب الذكر الراديو المعهود : امتطى الوالد صهوة الحمار وامر بالراديو فناولناه فوضعه امامه ووضع البطارية في الخرج , وبصمت رهيب ودعنا الراديو وكأننا نودع عزيزا ربما لن نراه مرة اخري, حيث أبلغنا المُصلّح اخر مرة اصلحه فيها ؛ ان الراديو في الرمق الاخير وما عاد ينفع معه التصليح , وفعلا فقد كان , عاد لنا الوالد من عند المُصّلح يحمل مسخا مسخوطا من البلاستيك قال وكأنه غير مقتنع بما يقول : لقد استبدلنا الراديو بهذا فهو اخف واصغر وارخص سعرا , وبطارياته في داخله وهي صغيرة الحجم . قالت الوالدة على الفور والله و(يا بادل النخلة بسخلة) , و بنبرة حزن واسى قلت : يعني لن نرى الراديو القديم مرة اخرى ؟ قال : يا ولدي انتهت موظة اللمبات وظهر مكانها مقويات الترانززتور وهي اصغر حجما واقوي مفعولا , ولا نحتاج لتمديد الاسلاك فوق السطح , معقول ؟ قال : تعالوا وجربوا بأنفسكم . فعلا الصوت اوضح والحجم اصغر والوزن اخف . لكن ذلك الراديو كان اجمل , ولم تعد للجديد نفس الاهمية التي كانت لسابقه , فلم يعد يُوضَعُ في الخزانة ويقفل عليه , وانما ترك مشاعا يستعمله أي منا متى يشاء . تصدقون ؟ انني كنت احس ان الاخبار التي كان ينقلها ذلك الراديو لها مصداقية اكثر . ألستم معي في هذا الامر ؟ فكل يوم نكتشف زيف وسائل الاعلام , وان اكثرها اقلامٌ ضالة مضلّة ومضلِّلة مطبِّلة , وكاذبة مُكذِّبة مُكذَّبة ومستاجرة ومؤجّرة وموجِّهة وموجَّهة , الخبر بنزل ثم يكذّب ثم يعود فيصدّق ثم يكذّب , حتى بات الناس في حيص بيص , لا يعرفون للحقيقة وجها او مرجعا . 
اقول رغم مرور اكثر من خمسين عاما , تقدمت وسائل الاتصالات بأشكالها وانواعها المختلقة , وتعاقبت علينا فيها الاجهزة المختلفة من راديو الى تلفاز و شاشات العرض , الى احهزة ال(ام بي ثري) التي حلت محل (الفنوغراف) الى الكميوترات ثم الخلويات . الا ان ذلك الراديو له في نفسى مكانة خاصة . اتمنى لو انه بقي عندنا كتحفة فنية . طبتم وطابت اوقاتكم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق