الخميس، 23 يوليو 2015

الغائبُ (قصةٌ قصيرةٌ) أحمد عبد السلام_مصر

الغائبُ (قصةٌ قصيرةٌ)
بدأَ شغفِي بِالقراءةِ؛ بمطالعةِ مجلاتِ الأطفالِ المصورةِ؛ مرورًا بِالقصصِ البوليسيةِ؛ فالكتبِ الأدبيةِ.
علقَتْ بِذهنِي شخصياتٌ كثيرةٌ؛ وانبهرْتُ بِالرجلِ الخارقِ"سوبرمان"؛ والرجلِ الوطواطِ "باتمان"؛ وغيرِهما؛ لكنَّ أكثرَها تأثيرًا كانتْ شخصيةُ "عبقرينو" المخترعُ، وما كنتُ أتصورُ أنَّني سأقابلُهُ يومًا؛ وجهًا لِوجهٍ.
المهندسُ إسلامُ النعمانِي، مندوبُ تسويقٍ، جمعتْنا الأيامُ في مقتبلِ العمرِ؛ في العملِ بِشركةٍ لتوزيعِ قطعِ غيارِ السياراتِ بِالإسكندريةِ، كنتُ محاسبًا، ولفتَ نظرِي تفوقَهُ على فريقِ التسويقِ؛ المكونِ من ثمانيةِ أفرادٍ، وتصدرُهُ لائحةَ الشرفِ كلَّ شهرٍ، شابٌّ؛ في منتصفِ العشريناتِ رياضيٌّ؛ ممشوقُ القوامِ؛ بارزُ العضلاتِ؛ عريضُ الصدرِ؛ أشقرُ الشَّعرِ؛ وسيمٌ؛ قسيمٌ؛ مرِحٌ؛ يألفُ؛ ويُؤلفُ.
عرفتُ أنَّهُ الابنُ الأكبرُ؛ لِلأستاذِ الجامعِيِّ هاشمِ النعمانِي؛ رئيسِ قسمِ الهندسةِ الميكانيكيةِ، وأنَّهُ دخلَ الكليةَ بعدَ معادلةِ دبلومٍ فنيٍّ؛ وليس بِالثانويةِ العامةِ كالمعتادِ، حيثُ كان الأولَ على دفعتِهِ في الدبلومِ؛ ثم واصلَ تفوقَهُ في الهندسةِ، غيرَ أنَّهُ لم يَرُقْ لهُ العملُ في الجامعةِ.
أخبرَنِي عن حبِّهِ لِلاختراعاتِ من الصغرِ، وأصرَّ على إطلاعِي على نماذجَ من إنتاجِهِ، اصطحبَني معَ زميلٍ آخرَ، وجدْنا سيارتَهُ من النوعِ العتيقِ: كتلةً من الصاجِ المرشوشِ حديثًا؛ والمقاعدِ الباليةِ، والأسلاكِ المعقدةِ، أدارَها بِمُلامسةِ سلكيْنِ. كانت هوايتُهُ شراءَ السياراتِ الخردةِ، وتجديدَها، فإذا قضَى منها وطرَهُ؛ باعَها معَ ربحٍ يسيرٍ.
فجأةً ركنَ السيارةَ، وأمرَنا بِالنزولِ على عجلٍ، وقلبَ المقعدَ الخلفيَّ، وراحَ يضربُ أسفلَهُ بِراحتيْهِ؛ ويقولُ:
_لا عليْكم .. مجردُ ماسٍ كهربائِيٍّ؛ في العفشةِ!
ولمَّا تلاشَى الدخانُ، ركبنا، واستأنفَ القيادةَ، وكأنَّ شيئًا لم يكنْ. 
قضيْنا يومًا مُمتعًا؛ في المختبَرِالخاصِّ "بِالفيللا" الفريدةِ؛ التي نجَتْ؛ من الهدمِ والتعليةِ في جليم، رأيْنا نماذجَ لِمُجسماتٍ من سياراتٍ؛ وآلاتٍ هندسيةٍ؛ وطبيةٍ؛ بدأَها في نادِي المخترعِ الصغيرِ؛ وما زال يعملُ على تطويرِها. كما شاهدْنا شهاداتِ التقديرِ؛ والجوائزَ الكثيرةَ؛ التي حازَها؛ في مسابقاتٍ عديدةٍ.
أخبرَنا والدُهُ أنَّهم أثناءَ زيارةِ قريبٍ لهم؛ بِمشفيً خاصٍ، انقطعَ التيارُ بغتةً، وتعطلَ المولدُ الاحتياطيُّ، وأصبحَتْ حياةُ المرضَى في خطرٍ؛ بعدَ توقُفِ الأجهزةِ، فبادرَ المهندسُ إسلامُ إلى سيارتِهِ الخردةِ، وأتَى بِأسلاكٍ؛ وجهازٍ صغيرٍ، واستأذنَ المسئولينَ، وأوصلَهُ بِالمولِّدِ، الذي دبَّتْ فيهِ الحياةُ، وعادَ يعملُ، وأُنقِذَتْ حياةُ العشراتِ.
في العامِ الماضي، صدمَتْ مقطورةٌ رعناءُ، سيارةَ المهندسِ إسلام، وراح ضحيةَ الحادثِ زوجتُهُ؛ وولداهُ، بينما حُملَ هو فاقدًا لِلوعْيِّ، وأُجريَتْ لهُ عدةُ عملياتٍ عاجلةٍ، ثمَّ سافرَ لِلخارجِ لاستكمالِ العلاجِ. هاجرَ والدُهُ بِما تبقَّىَ من الأسرةِ، وانقطعَتْ أخبارُهم عنِّي.
كلما انقطعَ التيارُ الكهربائِيُّ، تذكرْتُ غرفَ العملياتِ المعتمةَ؛ وحضَّاناتِ الأطفالِ المتوقفةِ؛ والمهندسَ إسلامَ؛ الغائبَ عن الوعيِّ في بلادِ الغربةِ، ورأيتُنِي أرددُ؛ صرخةَ باكثيرٍ الخالدةَ: واإسلامَاهُ!!
أحمد عبد السلام_مصر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق