الحرامُ (قصةٌ قصيرةٌ)
حينَ فتحَ عاملُ التنظيفِ الغرفةَ؛ تراجعَ مذعورًا، وقد راعَهُ منظرُ الجثثِ الأربعِ. وقالَ في شهادتِهِ إنَّ اثنتيْنِ منهما كانتا؛ تسبحانِ في دمائِهما، بينَما بدَتِ الأخرتانِ جافتيْنِ؛ إلا من زبدٍ كرغوةِ الصابونِ البيضاءِ على جوانبِ كلِّ فمٍ.
تعرَّفَ عليْها في المحكمةِ، سحرتْهُ دموعُها؛ المنسابةُ كحباتِ اللؤلؤِ، وبحةُ صوتِها الجميلةِ؛ وهي تجيبُ على أسئلتِهِ؛ بِشأنِ قضيةِ الطلاقِ المرفوضةِ توًّا، تعددَتْ لقاءاتُهما؛ حتَّى كسبَتْ قضيةَ الخُلعِ، ثمَّ تواصلَتِ اللقاءاتُ والمهاتفاتُ؛ حتَّى تمامِ زواجِهما. مضَتْ بِهما الحياةُ ردحًا من الزمانِ، تتهادَى في بحورِ الأمانيِّ؛ ولكنْ تأتِي الرياحُ؛ بِما لا تشتهِي السفنُ.
رشفَا من كأسِ السعادةِ أعوامًا، كدَّ فيها المحامِي النابِهُ؛ حتَّى أصبحَ لَهُ مكتبٌ معروفٌ، واسمٌ مشهورٌ، ودائرةُ علاقاتٍ مرموقةً. بِدورِها كانتْ طبيبةُ النساءِ والولادةِ، قد خطَتْ خطواتٍ واسعةً في مجالِها؛ حتَّى طبقَتْ شهرتُها الآفاقَ، وأصبحَتْ عيادتُهَا خليةَ نحلٍ لا تهدأُ، كان الحلالُ والحرامُ آخرَ ما يخطرُ على بالِهما.
ماتَ قريبٌ لها في المهجَرِ بِحادثِ سيرٍ، وخلَّفَ تركةً كبيرةً بِلا ورثةٍ غيرِها. أتمَّا تصفيةَ أعمالِهما، وانتقلَا لِاستلامِ الإرثِ. ولأنَّ الطيورَ على أشكالِها تقعُ؛ فقد عرفَ الزوجُ هناكَ طريقَ الليلِ، ورفاقَ السوءِ، والصفقاتِ المشبوهةَ، ومارسَتِ الزوجةُ عملياتِ الإجهاضِ، وتجارةَ الأعضاءِ، ونما المالُ الحرامُ بِسرعةٍ؛ فأزهرَ وأثمرَ، ونمتْ معَهُ المشاكلُ؛ حتَّى أصبحَ كلٌّ منهما يستعجلُ منيةَ صاحبِهِ.
حينَ رقدَتْ أسبوعًا من شدةِ الإرهاقِ، لم يكنْ يشغلُهُ مرضُها، بِقدرِ ما أهمَّهُ مصيرُ العملِ بعدَها، وتدبيرُ مَن يحلُّ محلَّها، لِإدارةِ المركزِ الطبيِّ الكبيرِ. وحينَ اشتكَى صُداعًا لا ينفكُّ، كانتْ تفكرُ في استثمارِ أعضائِهِ قبلَ تلفِها. تعرفَ إلى عشرينيةٍ لعوبٍ، أفقدتْهُ رُشدَهُ، واشترطَتْ عليْهِ الخلاصَ من زوجتِهِ. استسلمَ لِغوايتِها؛ فاستأجرَ قاتِلًا مُحترِفًا، وسلمَهُ شيكًا من ستةِ أصفارٍ بِنصفِ الأتعابِ، على أنْ ينقدَهُ الباقيَ عقبَ التنفيذِ.
راقبَها القاتلُ أيامًا، حتَّى عرفَ عنها كلَّ صغيرةٍ وكبيرةٍ.. قامَ بِمحاولتينِ فاشلتيْنِ، نجتْ فيهما بِأعجوبةٍ، فاسترابَ الزوجُ في أمرِهِ، وشككَ في قدرتِهِ على القيامِ بِالعملِ، واتهمَهُ بِالغشِّ، وهددَ بِفضحِهِ وإلغاءِ الاتفاقِ.
شعرَ القاتلُ بِالخطرِ، فأضمرَ في نفسِهِ أمرًا، تحيَّنَ فرصةً مواتيةً، اقتحمَ مكتبَها بِالمركزِ الطبيِّ شاهِرًا مسدسَهُ، وهددَها بِالقتلِ لدَى أولِ صوتٍ أو حركةٍ، وأغلقَ البابَ خلفَهُ.
جمدَتْ في مكانِها من الرعبِ، أطلعَها على اتفاقِ زوجِها معَهُ وأرَاها الشيكَ، ارتابَتِ المرأةُ، واستفسرَتْ عن سببِ عدولِهِ عن قتلِها، فضحكَ ضحكةً شيطانيةً، وأسرَّ إليْها أنَّهُ كان يبيتُ النيةَ، لِقتلِ الزوجِ أيضًا بعدَ تنفيذِ مهمتِهِ؛ لأنَّهُ لم يعتدْ أنْ يتركَ وراءَهُ شاهِدًا، أو مبتَزًّا، ولأنَّ تهديدَهُ الأخيرَ لم يرُقْ لَهُ، وهو الذي عاشَ يهددُ، ولا يخضعُ لِتهديدِ أحدٍ، ثمَّ إنَّهُ فكرَ في استثمارِ قتلِهِ، بدلًا من أنْ يقتلَهُ مجانًا.
لم يطلْ تفكيرُ المرأةِ، فحررَتْ لَهُ في الحالِ شيكًا بِضعف المبلغِ، ووعدتْهُ بِمثلِهِ فورَ انتهاءِ المهمةِ، ورسمَتْ لَهُ الطريقةَ المُثلَى لِلتنفيذِ.
بعدَ أيامٍ كان عيدُ زواجِهما، الذي لم يحتفلِا بِهِ من سنواتٍ، وإذا بِالزوجِ يخبرُها، بَأنَّهُ رتبَ حفلًا رائِعًا بِأحدِ الفنادقِ، وأنَّهُ سيقابلُ عقبَ الحفلِ، رجلَ أعمالٍ شهيرًا وزوجتَهُ، لِإتمامِ صفقةِ العمرِ. تظاهرَتِ الزوجةُ بِالغباءِ، وضحكَتْ ضحكةً بلهاءَ، جعلتْهُ يندمُ علَى أنَّ فكرةَ التخلصِ منها تأخرَتْ كثيرًا.
في الموعدِ المحددِ كانا يرقصانِ في الغرفةِ، على ضوءِ الشموعِ الخافتةِ، والموسيقَى الهادئةُ تشنفُ آذانَهما، وأريجُ الياسمينَ المحببُ إليهما يعبقُ المكانَ. ثم حضرَ رجلُ الأعمالُ المزعومُ، وبِرفقتِهِ فتاةٌ عشرينيةٌ باهرةُ الجمالِ.
دارَتْ الكؤوسُ عليْهم، وتبادلُوا حديثًا خفيفًا، بعدَ قليلٍ انفردَ الرجلانِ لِإتمامِ الصفقةِ، وانتبذَتِ المرأتانِ مكانًا قصيًّا لِلثرثرةِ، وسرعانَ ما تعالَتْ ضحكاتُهما الماجِنةُ، مُتزامِنةً معَ لمساتِ الكؤوسِ المترَعةِ.
بعدَ دقائقَ عادَ رجلُ الأعمالِ منزعِجًا، لِيُعلنَ أنَّ صاحبَهُ يبدُو أنَّهُ أفرطَ في الشرابِ، فسقطَ هامِدًا ولم تعدْ بِهِ ثمةَ حركةٌ، ولم يخبرْهما أنَّهُ أسكنَ جمجمتَهُ رصاصتيْنِ من مسدسِهِ المكتومِ، حانَتْ منه التفاتةٌ لِزوجةِ القتيلِ، فأقلقَهُ بريقُ عينيْها، وضحكتُها التي أفلتَتْ مجلجلةً، ولم يُسكتْها إلا مديةُ الحسناءِ العشرينيةِ، التي أغمدَتْها في قلبِها.
قبلَ أنْ يُتمَّا ترتيبَ الفوضَى، وسلْبَ القتيليْنِ، شعرَ كلٌّ منهما بِخدرٍ؛ يسرِي في ساقيْهِ، وألمٍ حادٍّ؛ يقطِّعُ أمعاءَهُ.
أحمد عبد السلام_مصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق