حنان
للأديب / محمد شعبان
آه .. كالعادة .. كل صباح .. أستفيق على وخزة إبرة .. حقنة السادسة صباحا .. وكأن على عيني حجابا ضبابيا يتلاشى شيئا فشيئا ، وأيضا على صوت ( حنان ) المترع بالنداوة وهي تلقي علىَّ أجمل ( صباح الخير ) يمكن أن تسمعها في حياتك .. ممرضة في غاية الجمال .. ( يااااه ) ـ الحمد لله ـ أخيرًا عدت إلى غرفتي .. بعد أسبوع مرير في العناية المركزة حيث كانت رائحة الموت تكتم أنفاسي، وتحف بي من كل جانب ... معظم الأحداث تمر بي هذه الأيام يكسوها الخيال، تمر دون أنْ أشعر بها .. غيابي عن الوعي أصبح دأبي المعتاد .. ( هيييييه ) عموما الآن أفضل بكثير من ستة أشهر فائتة قضيتُها في مصحة الأمراض العقلية .. حبس انفرادي .. جلسات كهرباء .. تناول قسري لدواء غاية في المرارة .. كانت أيامًا صعبة لا أدري كيف مرت بي ؟، بل الأمرّ منها أني لا أدري كيف سأعايش الآيام المقبلة؟ ... كنت بمجرد تذكر الحادثة أهتاج اهتياج المصروع .. أفقتُ ذات مرة من نوبة مجنونة على آثار دماء غزير يملأ كفي؛ لأكتشف أنني قد فقأت عين مُمَرّض مسكين كان قريب الشبه جدا بزوج أختي .. زوج أختي الآن نزيل مصلحة السجون ولولا ذلك لكنت قتلته بيدي وشربت من دمه .. آااااه .. سأحكي لك، لكن قبلا دعنا الآن ولو لوقت قليل مع الممرضة ( حنان ) فباسمها الذي يحتضنك حنانه، وشكلها الذي يسحر كيانك، وصوتها الذي يشبه صوت البلابل الصداحة تذكرني بأختي الغالية ( حنان ) ـ رحمها الله ـ .. لم يكن لي في الدنيا سواها .. كانت تكبرني بخمس سنوات .. تزوَّجتْ ، واكتشفنا أننا زوجنا قطةً ( شيرازي ) رقيقة لذئب بشري استغل جمالها في إتمام صفقاته القذرة مع رجال أعمال ومسؤولين فسدة ، أما هي فقد جَارتِ الوضع لبعض الوقت ظنًّا منها أنها تساعد زوجها في عمله؛ خاصة وأن الأمر لم يكن يتعدى كأسًا في ملهى ليلي ( كباريه )،( أوْوْوْ ) ربما دعاها أحدهم للرقص معه .. لم يكن يمانع هذا القذر أن يرى زوجته ورجلٌ آخر منفرد بها .. ذات مرة صحوتُ على اتصالها وهي تصرخ وتستغيث .. ضربها القذر لأنها صفعت أحد ضيوفه الفسدة عندما سرح بيده على ظهرها أثناء الرقص وكاد أن يبلغ ( أأأأ ) .. فوَّتَتْ عليه بذلك صفقة متينة .. طلبت الطلاق بعدها .. رفض .. عاشا فترة في شجار ونقار .. تركت له المنزل وعادت إلى بيت العائلة .. أجبرتُه أنا على تطليقها مهدِّدا إياه باستطاعتي تدميرَ عدة صفقات له كانت أوراقها جميعا في يدي بحكم شراكتي معه .. طلقها، وفضضنا الشراكة .. وعملت وحدي واستطعت في فترة وجيزة أن أحقق مكاسب طائلة .. ( حنان) كانت بمثابة أمي .. أمَّا أمي وأمها ، فلم تعرني اهتماما طوال حياتها .. عاشت حياتها بالطول والعرض .. تتنقل بين مصفف الشعر ، والنادي ، والحمام المغربي، وتركت بيتها وولدها وبنتها بين يدي ( الفلبينيات)، وما أدراك ما تربية ( الفلبينيات ) ! .. تزوجتْ أمي بعد طلاقها من أبي حوالي خمس مرات .. كانت دائما تصطاد الشبان من صالة الألعاب الرياضية وتحضرهم للبيت وتدعوني أنا وأختي في كل مرة قائلة :ـ سلما ورحبا بزوج ( ماما ) ... كنا صغيرين لنفهم جيدا ما يدور لكن شيئا فشيئا كبرنا، وهي ما زالت تتزوج وتطلق .. تتزوج وتطلق؛ معتمدة على ريع وديعة كبيرة تركها لنا أبي قبل هجرته مع إحدى الأجنبيات التي تعرَّف إليها وأقاما معا في ( ميلانو ) بعدما أنشأا شركة سياحية كبيرة هناك .. تهجَّم أحد أزواج أمي على ( حنان ) ذات مرة في غرفتها وأثناء غياب أمي خارج المنزل .. كان قوي البنية .. بارز العضلات .. عملاقا .. صرختْ ( حنان ) بأعلى صوتها .. اقتحمْتُ الغرفة لأنقذها من بين يديه العظيمتين .. دافعتُ بكل ما أوتيت من قوة عن أختي المرتمية تحت هذا الحائط البشري كدمية لا حول لها ولا قوة ، لكن بلا جدوى .. استطاع الثور البشري أن يرميني خارج الغرفة بدفعة واحدة، فَطِرْتُ كورقة تحملها الريح .. سك الباب، وانفرد هو بـ ( حنان ) .. وفي الوقت الذي حضرت فيه أمي وصعدت إلى الطابق العلوي بـ ( فيلتنا ) على صوت صراخي وطرقي على الباب .. لم نستطع كسر الباب .. ظللنا نطرق بأيدينا حتى خرج لنا العملاق بعدما افترس ( حنان ) .. صفع أمي، فسقطت على الأرض، ودفعني إلى داخل الغرفة وغادر المنزل .. رقدَتْ ( حنان ) بالمستشفى فترة إثر هذه الحادثة .. لكن ليست هذه الحادثة هي التي أرقد بسببها الآن في المستشفى فهذه كانت منذ زمن .. لقد بدأتُ العمل مع ( غالب ) بعد تخرجي من ( الجامعة الأمريكية ) فشَغَّلني إكرامًا لأختي ( حنان ) التي شاهدها في إحدى الحفلات وطلب الزواج منها .. تخيَّلْ .. ( حنان ) وافقت على الزواج منه رغبة في عملي معه ولِمَا رأتْه من شغفي الشديد بالعمل في مجال التجارة والاستيراد والتصدير .. فـ ( راغب ) لم يكن أبدا بفتى أحلام فتاة مثل ( حنان ) .. فتاة مرهفة الإحساس .. هادئة الطباع .. تحلم بزواج مثاليّ خالٍ من منغصات الحياة الشقية .. تعيش فيه مع من تحب في عالم من الوفاء والإخلاص الدائمين .. واعتقدتُ أنا أنَّ ( حنان ) نالت ما تريد، وسوف تبدأ حياة جديدة هادئة كما أحبت ورغبت بعد طلاقها من ( راغب ) .. لكن القذر أظهر لها ( سي ديهات ) صوَّرها فيها مع كل من قابلتهم .. ربما تقول أنت إن الأمر ليس بالخطر .. لا .. سأقول لك الأخطر .. مقاطع (فيديوهات ) لها وهي عارية في الحمام معه، وفي غرفة النوم وبإخراج عال الجودة من زوايا مختلفة من خلال ( كاميرات ) مثبتة في كل أركان الغرفة بحيث يظن كل من يشاهد أنها برفقة رجل غريب وليس برفقة ( راغب ) .. ألم أقل لك إنها وقعت بين براثن ذئب بشري ؟ .. لم تكن تستحق ( حنان ) كل ما حدث لها، والذي ربما كنت أنا السبب فيه .. ولكم لُمْتُ نفسي مرارًا أمامها !، ورغم ذلك كانت تفتح لي ذراعيها محتضنة همومي وأحزاني وهي التي تحتاج لذلك وليس أنا، ولكن .. هذه هي (حنان ) .. لم يكن هذا الاستبزاز من ( راغب ) هو السبب لعودتها له مرة أخرى .. هناك سبب آخر .. هو أنا .. هل تعرف السحر الذي ينقلب على الساحر؟! .. نعم .. هذا ما حدث .. استطاع ( راغب ) بحيله القذرة وصلاته التي لا حصر لها برجال أعمال ومسؤولين فسدة و ( بلطجية ) وغيرهم إيقافَ كل مشارعي وصفقاتي التي انتويتها وخطّطتُ لها على مدار سنتين من الكد والعرق .. وعادت (حنان ) لـ ( راغب ) صاغرة .. وللمرة الثانية أقف عاجزا عن الدفاع عن أختي التي لم تعش في هذه الحياة إلا لي .. لي أنا فقط .. لكنني هذه المرة عزمت على التخلص من راغب وللأبد .. منعني ( راغب ) عن زيارتها ، وضرب حول ( فيلتها ) سياجا من كلاب الحراسة البشرية الملغمين بالسلاح .. كان القذر يُحضر لها عملاءه ويجبرها على معاشرتهم معاشرة الأزواج ، ولم أعد أراها ولا أسمع صوتها ولا أعرف عنها شيئا .. اتفقتُ مع عامل توصيل الطعام للمنزل؛ فدسَّ لها هاتفا داخل الطعام واستطعت لأول مرة منذ عودتها له أن أسمع صوتها الجميل الحنون .. بدت متمساكة لحد بعيد رغم بحة نشيج تملك صوتها، وكأنها تريد أن تطمئنني وتهدئني ، لكنني كنت أعرف كل شيء، وأعرف كل ما يدور داخل ( الفيلا ) .. استأجرت ( الفيلا ) المقابلة ورصدت من خلالها تحركات ( راغب ) لفترة من الوقت .. وكنت أخطط لتهريب ( حنان ) .. اكتشف القذر خطتي فسحب منها الهاتف ... وسلط كلاب حراسته المستأجرين؛ فهاجموا ( الفيلا ) ، وأصابتني رصاصة من أحدهم ، لكنني استطعت الهروب من الباب الخلفي ... ليست هذه المرة أيضا سبب رقدتي في المستشفى .. دخلتُ المستشفى حينَها، ورقدت لعدة أيام، وفوجئت بـ ( حنان ) تطل عليَّ بطلتها الحلوة الندية وصوتها العذب الحنون .. استطاعت القطة ( الشيرازي ) الرقيقة الهروب من قفص المارد الجبار، وأثبتت لـ ( راغب ) أنها أنثى أسد صعبة المراس نشبت مخالبها في عنق مصالحه وكادت تفتك به، فتركها .. أحد الذين جلبهم راغب لها هو ( بسيم ) .. مسؤول كبير بمصلحة الجمارك، ويعرف عن مصالح ( راغب ) الكثير والكثير .. تعاطف لحالها، فاتصل بـ ( راغب ) وهدده بضرب مصالحه بالجمارك إذا هو لم يتركها وشأنها، بل ووعدها بأن يقف بجانبي ويساندني ويسهل لي كل صفقاتي المعلقة بالجمارك .. اصطحبتني ( حنان ) لبيت العائلة الذي أصبح خاويا على عروشه بعد زواج أمي من شاب لبناني فكَّت من أجله الوديعة وأخذت مبلغا كبيرا وذهبت معه، وانقطعت أخبارها تماما .. ( حنان ) ما زالت بعد ما حدث لها هي الصدر الحنون التي تخفف عني كل هذه الملمات، لكن .. لكل شيء ثمنه ! .. اتصل ( بسيم ) بها وأخبرها أنها ينبغي أن تحضر ومعها أوراق خاصة بصفقاتي .. أخبرتها أنني مستعد للذهاب له .. رفض .. أرادها هي وحدها .. رفضتُ أنا وبشدة، وخمنت أنه قد يكون كمينا من (راغب) .. فيكفي تضحية ـ يا ( حنان ) ـ .. يكفي .. إلى متى تحرقين نفسك من أجلي ؟ .. لن أقبل ذهابك لهذا القذر هو الآخر .. هل سنستبدل ذئبا بذئب ؟ .. لا لا .. يكفي هذا ـ يا حنان ـ .. ستعيشين لنفسك ولو لمرة واحدة ؟ .. يجب أن تعثر ( حنان ) على نفسها .. وفي غفلة مني أخذت الأوراق من درج المكتب .. ركبت السيارة، وانطلقت لـ ( بسيم ) .. أدركتُ اختفاءها، فانطلقتُ خلفها .. أدركتُها على الطريق السريع .. حاولت توقيفها .. لم تتوقف .. كانت تلاحقنا سيارات سوداء ضخمة مصفحة أربع سيارات .. هي سيارات من معرض ( راغب ) .. أعرفها .. نفس النوع الذي يستورده .. ضيَّقتْ إحداها عليَّ الطريق حتى خرجتُ عن نهره إلى الرمال فغارت الإطارات فيها وتوقفتُ تمامًا، فخرج مَنْ بالسيارة، وأطلقوا عليَّ الرصاص .. احتميت خلف سيارتي .. بينما تلاحق الثلاثة الأخرى سيارة ( حنان ) .. مطلقين الرصاص عليها من كل جانب .. اخترقت الرصاصات كل جوانب سيارتها .. انقلبت سيارتها، فانفجرت ودُمِّرت تماما .. وما زال كلاب ( راغب ) يطلقون الرصاص عليّ، وعندما هزَّهم الانفجار تركوني وذهبوا ..
.... ربما لن تحفل بحالتي الآن أو تهتم، ولن تتعاطف معي عندما تعرف أنني هنا بالمستشفى من بعد مشاهدتي ( حنان ) واصطدام عيني بمنظرها أثناء إخراجها من سيارتها جثة هامدة .. أليس كذلك ؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق