كانت أمنية تجلس بجانب النافذة, كانت ترمق الشارع بثقة ,غير مكترثة لتفكيرها الذي بدأ يلتهم بقايا المارة من أمام ملامحها, دفاتر ذكرياتها بدت وكـأنها لوحة ثلج تتدحرج مسرعة نحو المجهول .
أمنية, امنية...راح الصوت يناديها من بعيد...
لكنها اختبأت في زوايا جرحها الذي أخذ فجـأة بالاتساع ليلتهم تلك الهدايا التي تركها المارة تحت النافذة في طريقهم هم أيضا نحو المجهول .
من المنادي !
أتراه الرحيل عاد من جديد !
أم هو صدى الجرح قد أصابه عطب فصار يطرق باب الحنين !
هكذا هو الجرح عندما يتكلم, يحدث شرخا داخل الأحلام , لكن أحلام أمنية خرجت من دائرة صمتها هذه المرة, فنافذتها لم تزل مفتوحة نحو الانتظار وعيناها الزرقاوتين بلون السماء ما زالت تخيط المدى إلى أن تنمُ الشمس خلف خطوط الامنيات .
صباح الخير يا حلوتي قال لها الشروق وهو يضحك معلنا بداية يوم جديد مليء بالتفاصيل , وما أن استيقظت امنية حتى بدأ الضياء يتزاحم أسفل باب غرفتها يقضم بقايا ليلتها ,مسرعا إليها كي يعبث بأحلامها علّه يجد خيبة واحدة يقضمها فيزيلها من قاموس الذكريات .
كانت أمنية ما زالت تختبئ خلف لحافها الابيض المرصع بالنجوم وحين أطلت بعينيها الزرقاوتين من خلفه بدت كالسماء صبيحة شتاء صحو يرسم حكايا المطر .
شعرها الأسود المتناثر فوق وسادتها كان يدفن خلفه خرائط أحلامها ورسائل قديمة تعج بالمفاتيح والصور تركها المارة على حافة نافذتها قبل أن يغادروا بيوتهم ويرحلوا مع الغروب.
أمنيه, أمنيه,,
راح الصوت يناديها من جديد ...
كانت تعلم أن الليل حين يـأخذ ما نمتلكه قسراً يأبى أن يعيده الينا من جديد.
يا أنت ...
راحت تنادي على ذلك الصوت البعيد
لا تخف قالت له...
أنت لست وحيدا..
سأحتفظ برسائل أحبتك وسأعتني بها الى أن تكبر
لن ينتزع أحد منك أمنياتك
ثم مسحت ماء عينيها وتاهت في بحور الذكريات
غادرت أمنية فراشها وركضت صوب الحياة, كانت حركاتها مفضوحة, كطفلة لطخت يدها بألوانها المدرسية وأخفت وجهها مخافة أن توبخها أمها, نظرت صوب السماء وراحت تتمتم بعفوية الصباح : إن اصعب ما في الغياب ذاكرة الصباح التي تستيقظ معك .
كان أطار الشباك باردا حين اتكأت عليه وكان للمطر رائحة الحياة وكان الغيم يتشكل على هيئة رحم يمطر طفولة مشردة تملأ الأرصفة فتافيت سكر سرعان ما تذوب بعد أن تغادرها خلسة ابتسامة الصباح .
لم تكن امنية متيقظة حين فتحت أمها الباب, فقد كانت شاردة الفرح تدندن ذلك اللحن الذي ما زال عالقا بذهنها مذ أن غادرها والدها ورحل مع النازحين إلى مدن الصمت, حيث تسكن أفراح الصغار , يومها دخلت قاموس ذكرياتها مصطلحات جديدة عن الرحيل .
نادتها أمها هامسة : أمنية ,,
كان صوتها أشبه بالحلم ,,,
نظرت إليها وعيناها ما زالت تعكس مشاهد وجوه العابرين وهي تحمل تفاصيل الذين رحلوا بالأمس القريب ,,,,
صباح الخير يا أجمل الأمهات, قالت لها !
كان لأمها قدرة خرافية على البسمة رغم ما يسكن قلبها من هزائم الحياة , ورغم ضجيج الخريف إلا أنها كانت تهش بأمنيتها على أوجاع الفراق .
أمي, أمي, راحت أمنية تنادي وفي صوتها نغمة عصافير, تنام تحت أنقاض ذكرياتها المؤلمة ثم تصدح بأناشيد الفرح ..
لقد شاهدت الليلة أبي في حلمي ,كان يلوح لي مناديا من بعيد :
أين أنت يا حبيبتي ,,
كان يبدو عليه علامات الحزن الدفين, لكن الغياب لم يُذبل روحه, كانت الغيوم تُمطر عليها زهور نرجس, أنظري امي ! هذه الزهرة قطفتها من بستان السماء وسأهديها له حين تعزف الملائكة ترانيم الرجوع , هكذا حدثني أبي ثم قبل يدي وأعطاني خريطة لأحلامي وصورة لك وأنت تستنشقين حنين الصباح قبل أن يجف .
أتراك يا أبي ما زلت تحصي دمعات أمي التي ما زالت تنمو على خديها منذ أن سكنتها أماني الخريف !
أتراك ما زلت تلتحف حضنها حتى لا يعتليه الذبول ,,,
عد إلينا يا أبي حتى يعود للعندليب دفء صوته
عد يا أبي حتى تعود إلى أمي ضحكات اللوز
عد إلينا حتى تبتسم جراح الوطن من جديد
_________________________________
من المجموعة القصصية "أمنية"
جهاد بلعوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق